كانت لنا أيام: الأميرية مدني وهارفارد

د. الفاتح ابراهيم /واشنطن

يعرف أهل السودان قاطبة أن مدارس الاميرية في كل مدن السودان تتميز بمستوياتها العالية وطلابها الاذكياء المبرزين .. كما عُرفت بالانضباط الذي مصدره ثلة من المعلمين والإداريين الذين أفرزتهم مؤسسة بخت الرضا الرائدة ..

لقد عملت قبل دخول الجامعة معلما لمدة عام في مدني الأميرية وكانت تلك المدرسة تعامل باحترام وتظل مصدر فخر للمدينة .. وكان كل الفصل ينجح لدخول المرحلة الثانوية .. ويزدان حائط مكتب الناظر بصور مشاهير الشخصيات التي كان لها دور بارز في الحياة وتخرجت من الاميرية مثل محمد نجيب اول رئيس لمصر والزعيم إسماعيل الازهري والرئيس نميري وأمان عندوم الزعيم الاثيوبي وغيرهم كُثر ..
مرت الايام والسنين ومشينا الخُطى التي كُتبت علينا على رأي المرحوم احمد سليمان وأكملت الدراسة الجامعية ..
وعملت في السودان والخليج وأمريكا بعد أن أنهيت الدراسة فوق الجامعية في أوهايو وكاليفورنيا ..

وبينما أنا في احدى أسفاري المهنية راجعا من وراء البحار إلى أمريكا والطائرة في تلك المرحلة الرتيبة وهي تعبر المحيط حين لا يرى الراكب على متنها إلا السحب “التخا “على مسافة بعيدة تحت الطائرة والقمر شاحب اللون تغطيه مسحة من الضباب أو الغبار الكوني .. وبالرغم من السرعة الهائلة التي تسير بها الطائرة إلا أن الراكب في الداخل يحس انه قابع في مكانه وكل شيء ثابت !! إنها القوانين الفزيائية التي تحدث عنها اينشتاين في طبيعة السرعة والحركة والكتلة ..
وسط كل هذا الزخم والشعور بالضجر استعجالا للهبوط في واشنطن فجأة حدث ما كسر الروتين وقلب مجريات الاحداث رأسا على عقب وذلك حين تقدم نحوي شاب طويل في مقتبل العمر وقال هل انت استاذ الفاتح قلت نعم قال أنا اسمي فلان كنت طالبك في مدرسة مدني الأميرية وكان ذلك كافيا لقدح زناد الفكر واشعال شعاب الذاكرة او كما عبر عنها جوزيف كونراد البولندي
(To cudgel my creativeness)

ومعروف ان كونراد البولندي الذي درسنا احد كتبه لامتحان الشهادة السودانية “سنوات ما قبل السلم التعليمي” أتقن اللغة الانجليزية
وتفوق على اهلها الانجليز وكتب بها عيون ودرر الادب الإنجليزي مخالفا بذلك لنظريات اللغويين التي تقول أن اللغة تكتسب فقط في سنوات التكوين الأولى ..

وكونراد جاء إلى بلاد الانجليز لا يعرف الإنجليزية ولم يتحدث بها إلا في العشرينيات من عمره ومع ذلك صار من اعظم الكتاب في الادب الانجليزي!!وربما يذكرنا ذلك بالعبقري السوداني خليل فرح وقصته مع اللغة العربية إذا ثبت ان الخليل تكلم العربية في مرحلة متأخرة من العمر وتلك قصة أخرى …

على أي حال تذكرت تلك الأيام الزاهرات في مدينة ود مدني حاضرة الجزيرة وتذكرت الأميرية الكائن مبناها العتيق على ضفاف النيل الأزرق محاطة بالأشجار وحدائق الزهور والورود.. وتذكرت هذا الطالب بالذات لأنه كان من الطلاب المبرزين .. ولكن تساءلتُ في نفسي ما الذي اتى به الى تلك البقاع لعله يزور احد أقاربه .. وسألته عن ما الذي أتى به وقال لي أنه كان في إجازة لزيارة اهله في السودان وهو في أمريكا يدرس الطب في جامعة هارفارد ..
لم يدهشني ذلك فقد كان التعليم في السودان قمة في الجودة قبل أن تمتد إليه يد “السلم التعليمي” الآثمة ..
ولحسن الحظ أنني واصلت كل المراحل التعليمية في النظام القديم فنجوت من براثن السلم التعليمي الذي كان رابضا متربصا للانقضاض على المنهج الذي امضى عدد من اساطين رجال التعليم في “بخت الرضا” زمنا في كتابته ..
في نهاية المرحلة الثانوية في مدينة ود مدني كنا أشتاتا من الطلاب جمع بيننا حب الأدب والحوار في شئون الثقافة .. نتج عن طبيعة المنهج المقرر والمنافسة الأكاديمية فيما بيننا في ذلك العام الذي جلسنا فيه لامتحان الشهادة السودانية، انقسامنا لفئتين مجموعة شكسبير وطه حسين والأخرى التي كنت انتمي إليها مجموعة العقاد وبرنادشو .. وذلك بسبب أن من ضمن المقرر لتهيئتنا لامتحان الشهادة السودانية للالتحاق بالمرحلة الجامعية كتاب “شوقي شاعر العصر الحديث” تأليف الأديب المصري شوقي ضيف .. أما رواية “بيجماليون” التي تحولت إلى الفيلم المعروف سيدتي الجميلة ”
My Honest Girl
لمؤلفها بيرنارد شو فقد كانت ضمن مقرر الأدب الإنجليزي بالإضافة الى قصة للمؤلف الانجليزي البولندي جوزيف كونراد ..
كنا نتبارى في استعراض شواهد النحو والبلاغة والتحاور في مقررات الأدب العربي والإنجليزي والجغرافيا والتاريخ ..كان هذا الأسلوب يعيننا في استذكار الدروس من غير ملل وينمي التفاعل وتبادل الآراء ويشعل روح المنافسات الشريفة بيننا في مجموعتنا من جهة والطلاب الآخرين في الجهة الأخرى.. كانت الإمكانات متاحة والمستويات متقاربة والنفوس تواقة للإنجاز مفعمة بالأمل والطموح .. هكذا كان التعليم الذي أفرز جيلا من المهنيين والمعلمين المهرة ..

لذلك يحق لنا ان نتساءل كيف لبلد بكل ذلك الإرث من التعليم وعوامل النهضة أن ينتهي الى ما يجري الآن من حرب وتخريب شمل كل مقدرات التقدم والنهوض وما زال الدمار مستمرا؟
كأنها الهزة الارتدادية
Aftershock
للزلزال الكيزاني الذي ظل يدمر مقدرات الامة السودانية طيلة ثلاثين عاما ..
“وكانت لنا أيام” على رأي بازرعة وأبو عفان !!

[email protected]

Comments (0)
Add Comment