سرديات الحرب بين السخرية والواقعية: الرقصة المعقدة للتراث والذاكرة والهوية في السودان.

المستشار اسماعيل هجانة

مدخل: شعب بلا تراث، هو شعب بلا ذاكرة، و بلا هوية.

تتناول المقالة بعمق في العلاقة الدقيقة بين التراث والذاكرة والهوية، وتسلط الضوء على مساهمتها المحورية في الإطار المجتمعي. ويؤكد بشكل مقنع أن التراث يتجاوز مجرد سرد الأحداث التاريخية، و يجسد فسيفساء غنية من الممارسات الثقافية واللغات والتقاليد بما في ذلك اللهجات المحلية ، و الموغلة في القدم التي تشكل بشكل جماعي جوهر المجتمع. ومثل هذه الرؤية أمر حيوي لفهم الكيفية التي تحافظ بها المجتمعات على ارتباط دائم بتاريخها أثناء توجيهها عبر ظروفها الحالية وتصور مستقبلها.

يبدأ هذا المقال في استكشاف عميق للتفاعل المعقد بين التراث والذاكرة والهوية، ويسلط الضوء على أدوارهم الأساسية داخل النسيج المجتمعي في السودان. ويجادل بشكل مقنع بأن التراث يتجاوز السرد التبسيطي للأحداث التاريخية ليشمل فسيفساء نابضة بالحياة من الممارسات الثقافية واللغات والتقاليد واللهجات المحلية ذات الأصل القديم او المعاصر. يشكل هذا النسيج الغني جوهر المجتمع السوداني، ويوفر عدسة يمكننا من خلالها فهم كيف تحافظ المجتمعات على ارتباط عميق بماضيها وسط تحديات الحاضر وتطلعات المستقبل. يعد هذا المنظور أمرًا بالغ الأهمية لفهم مرونة وديناميكية الهوية السودانية، حيث تتنقل بين تعقيدات الموروثات التاريخية والحقائق المعاصرة، مما يضمن الإرث الدائم لتراثها الثقافي الغني.

في عالم حيث غالبا ما تطمس قوى العولمة الخطوط الثقافية، لا يمكن المبالغة في التأكيد على أهمية التراث والذاكرة والهوية في الحفاظ على نسيج المجتمع. إن الأمة التي لا تراثها هي بمثابة سفينة بلا بوصلة، ضائعة بلا ذاكرة ولا هوية. يشكل هذا الارتباط العميق بين ماضي المجتمع وهويته الحالية جوهر وجودنا الجماعي، ويربط بشكل معقد بين الممارسات الثقافية واللغات والتقاليد في فسيفساء غنية تشكل جوهر أي مجتمع.

وفي قلب هذه الفسيفساء الثقافية توجد الموسيقى والرقص، وهما رمزان قويان للتراث والهوية يتجاوزان مجرد الترفيه. وهذه الأشكال الفنية متجذرة بعمق في التعبير الثقافي للمجتمعات وتراثها، وتعمل كقنوات نابضة بالحياة لسرد القصص والتعبير الثقافي. من خلال لغات الإيقاع واللحن والحركة العالمية، تروي الموسيقى والرقص التجارب الجماعية للمجتمعات، من انتصاراتها التاريخية وأحزانها إلى إيقاعات الحياة اليومية، وبالتالي الحفاظ على اتصال حي بإرث الأجداد.

الموسيقى والرقص ليسا ثابتين؛ فهي تتطور وتعكس التغيرات المجتمعية وتتكيف معها مع الحفاظ على العناصر الأساسية للتراث. وتؤكد هذه الديناميكية مرونة الهوية الثقافية، وتوضح كيف تتطور التقاليد لتظل ذات صلة عبر الأجيال. علاوة على ذلك، تلعب هذه الأشكال الفنية دورًا حاسمًا في تعزيز التماسك الاجتماعي، وترسيخ الأفراد داخل بيئتهم الثقافية من خلال الخبرات والقيم المشتركة التي يتم الاحتفال بها في الاحتفالات والمهرجانات والتجمعات المجتمعية.

وتمتد القوة التحويلية للموسيقى والرقص إلى ما هو أبعد من الحفاظ على الثقافة، حيث تعمل كأدوات للمقاومة والتمكين. تاريخيًا، سخرت المجتمعات المهمشة هذه التعبيرات لتأكيد هويتها، وتحدي الظلم، وإلهام التغيير. وفي مواجهة القمع، كانت الموسيقى والرقص بمثابة منارات للأمل ووسيلة لتأكيد الهوية والحقوق الثقافية.

بينما نتعامل مع تعقيدات عالم مترابط، تتخطى الموسيقى والرقص الحواجز الجغرافية واللغوية، مما يسهل التواصل والتبادل الثقافي العالمي. وتلعب هذه الأشكال الفنية، التي تعترف بها اليونسكو كمكونات أساسية للتراث الثقافي غير المادي، دورًا محوريًا في الحفاظ على التنوع الثقافي وتعزيز الهوية العالمية.

لكن التراث هو أكثر من مجرد سجل تاريخي؛ فهو يشمل النفس الجماعية للمجتمع، بما في ذلك تقاليده ولغاته وآثاره. إنه يمثل مكتبة واسعة من الذاكرة الجماعية لمجتمع ما، حيث يعرض كل “كتاب” جوانب مختلفة من ماضيه وحاضره. إن الذاكرة، التي تعمل كخيط ذهبي يربط بين الماضي والحاضر، تشكل الوعي الجماعي وتوجه التقدم المجتمعي.

إن التعبير النهائي عن هذا التفاعل المعقد هو هوية المجتمع – مزيج فريد من العادات والمعتقدات وطرق المعيشة، المنسوجة من ألوان التاريخ والتجارب المشتركة. وفي عصر يشكل فيه التجانس الثقافي تهديدا للتنوع، أصبح الحفاظ على هذه الهوية الفريدة أكثر أهمية من أي وقت مضى.

توضيح حيوية التراث الثقافي، وأمثلة من المزيج المتناغم بين التقاليد والحداثة في اليابان، والتراث الحي لقبائل السكان الأصليين، وإرث عصر النهضة في إيطاليا، يعرض الطرق المتنوعة التي تعتز بها المجتمعات في جميع أنحاء العالم بهوياتها الثقافية الفريدة وتحافظ عليها. ونقرأ ذلك بوضوح أيضا في حركة التنوع والتعدد الثقافي في المجتمع السوداني، من خلال ايقاعاتها المتميزة حد الإدهاش المعبرة عن لونيات ثقافية لشعوب سودانية متداخلة متمازجة لكنها مازالت تحتفظ بخصائصها الرائعة المعبرة عن قيمة جوهر التعدد والتنوع المزدهر في الحياة السودانية. فمن رقصة الكرنك، الوازاة، الدلوكة، والشتم، أغنيات وألحان، البجا في شرق السودان، المردوم، والنقارة ، والنحاس، والكاتم، اغاني الحلفاويين، والشايقية، والزغاوة والفور، والمساليت، والكمبلا. اغنية عديلة إيقاعاتها ولحنها المتفرد لدى مجتمع الحلفاويين في شمال السودان، أيضاً هنالك رقصات “الرزة” و”القيدومة” و”النقارة” و “قدم الحمام” و”العنقالي” و”المنضلة” و”الزاح” و”الهرمة” عند الرزيقات و”الربة” عند الجوامعة و”البوردي” في شرق دارفور عند الداجو و”الجمل رقد” ايقاع وله رقصة الولي ورقصة “الأنجليلة” عند المساليت ويتم فيها القفز عالياً وهي عبارة عن استقبال للحفلة، رقصة “السيف”، رقصة “العرضة”، “الصلبونج” و رقصة “الارجيد” هذه من مجموع وهي ضمن قائمة تتجتوز المئة رقصة وايقاع ولحن بعتبر عن ثقافات الشعوب السودانية. انها ليست مجرد كما يتخيلها البعض أنها بمثابة الروح في أجساد تلك المجتمعات، وذاكرتها وتراثها الحي المعبر عنها بل هويتها. فمن عديلة ووة النوبية الى حميرة هوي البارة دري حكايات التاريخ وتراث وهويات لا يمكن أن تندثر بمجرد التغافل او الاصرار على دفن الآخر وهو حى. أو إنكار لوجوده عبر الزمن. هذه ليست مجرد ألحان، و أغنيات ورقصات، انها تراث وذاكرة وهوية تعبر بعمق عن روح هذه المجتمعات وبصمتها المميزة التي شكلت قارة تسكن في بلد. فحينما يتم استدعاؤها في الافراح والاتراح والنائبات، فإنها ليست مجرد الحان أو مجرد رقصات أنها الحد الفاصل ما بين الحياة والموت. فان الفشل في فهم التنوع والتعدد وقيمته وحسن إدارته وتغذيته لتعزيز اللحمة الوطنية تم استغلاله بصورة ممنهجة لهدم أركان بنيان الدولة السودانية التي تعاني من خلل بنيوي تاريخيا. انها ليست مجرد أغنيات انها سرديات للحب والحياة، كما انها للحرب والسلام. فعلينا ان نحسن استثمارها بطريقة تعزز اللحمة الوطنية في دولة مواطنة ديمقراطية فدرالية.

يكمن جوهر التراث في انه أكثر من مجرد تاريخ، غالبًا ما يتم الخلط بين التراث باعتباره مجرد سجل للأحداث التاريخية. ومع ذلك، فهو أكثر شمولاً بكثير. ويشمل التقاليد واللغات والآثار، وحتى النفس الجماعية للمجتمع. إنها أشبه بمكتبة واسعة، حيث يمثل كل كتاب جانبًا مختلفًا من ماضي المجتمع وحاضره. يؤدي فقدان أي من هذه الكتب إلى سرد غير مكتمل، مما يحجب فهمنا الجماعي لهويتنا.

وتعتبر الذاكرة بمثابة الخيط الذهبي الذي يربط الماضي بالحاضر. لا يتعلق الأمر فقط بتذكر الأحداث؛ يتعلق الأمر بكيفية تشكيل هذه الأحداث للوعي الجماعي. الذكريات هي القصص التي تنتقل عبر الأجيال، والدروس المستفادة من الانتصارات و المآسي التاريخية، والقيم التي تشكل الأعراف المجتمعية. إنهم بمثابة البوصلة، التي توجه السفينة المجتمعية عبر محيطات الزمن والتغيير الشاسعة.

ذروة التراث والذاكرة تتجلى في هوية المجتمع. الهوية هي النكهة الفريدة للمجتمع – عاداته ومعتقداته وطرق معيشته. إنها مثل نسيج غني بألوان التاريخ وأنماط التجارب المشتركة. وفي عالم تميل فيه العولمة إلى تجانس الثقافات، يصبح الحفاظ على هذه الهوية المتميزة أكثر أهمية. لذلك تعتبر الهوية ثمرة تراثنا الجماعي وذاكرتنا

فإن العلاقة بين التراث والذاكرة والهوية هي واقع حي يتنفس ويشكل جوهر المجتمعات. مثل رعاية الشجرة، فإن الحفاظ على جذورنا وذكرياتنا الثقافية يضمن استمرار نمو وحيوية هويتنا الجماعية للأجيال القادمة. إن فهم وتقدير هذه الرقصة المعقدة للتراث والذاكرة والهوية أمر ضروري لضمان بقاء مجتمعنا قويًا وعميق الجذور ومتوسعًا باستمرار، ويحتفل بالنسيج الغني للثقافة الإنسانية بكل تنوعها.

في المشهد السردي للسودان، حيث تتشابك أصداء الصراع مع النسيج النابض بالحياة للمرونة الثقافية، تقف “سرديات الحرب بين السخرية والواقعية: الرقص المعقد للتراث والذاكرة والهوية في السودان” بمثابة شهادة على الروح الدائمة و الطواقة للحياة من شعبها. ومن خلال وسائط الموسيقى والرقص، تعبر المجتمعات السودانية عن قصة تتأرجح بين السخرية حد عدم الاعتراف ونفي وانكار الآخر الى الاحتفاء الزائف كدرجة متقدمة في مشهد من مشاهد التضليل اللاذعة الناتجة عن المشقة والواقعية الصارخة لنضالاتها الشعوب السودانية التاريخية والمستمرة. هذه التعبيرات تتجاوز مجرد البقاء. إنها تأكيد عميق للهوية، واحتفال بالتراث، وذاكرة جماعية ترفض إسكاتها بسبب نشاز الحرب، أو سيطرة قلة على نفوذ الثروة والسلطة وتسخيرها في خدمة مشروعات ثقافية محدودة منكفئة ومعزولة، بل مسنودة بالسيف والثار، لا تعبر عن لوحة الوطن العظيم الزاخر بالتنوع والتعدد الحيوي المميز. وربما كانت واحدة من أسباب الانفجار العظيم المتمثل في لحظة اشتعال فتيل الحرب التي لم تنته بعد.

لتعزيز رحلتنا عبر المشهد الثقافي النابض بالحياة في السودان، يصبح من الضروري التعمق في الممارسات الثقافية الفريدة والسياقات التاريخية التي تشكل العمود الفقري لهذه الرواية الممتدة الجذور في السرديات التاريخية. إن الفحص الدقيق والشرح لرقصات سودانية محددة، والتقاليد الموسيقية، والأحداث التاريخية التي شكلت هذه التعبيرات سيوفر نسيجًا أكثر ثراءً لقرائنا، وخاصة أولئك الأقل دراية بتراث السودان الغني. وبينما نبحر في الحاضر ونتطلع إلى المستقبل، يصبح فهم الأهمية المعاصرة لهذه المظاهر الثقافية ضمن السياق الاجتماعي والسياسي المتطور في السودان أمرًا بالغ الأهمية. لن يسلط هذا الاستكشاف الضوء على التفاعل الديناميكي بين التقاليد والحداثة فحسب، بل سيسلط الضوء أيضًا على مرونة الثقافة السودانية وقدرتها على التكيف في مواجهة التغيرات والتحديات المستمرة. ومن خلال دمج العناصر المرئية التي تجسد جوهر هذه الممارسات، فإننا ندعو القراء إلى تجربة أكثر انغماسًا في التراث الثقافي السوداني. تهدف هذه التحسينات إلى سد الفجوة بين الماضي والحاضر، وتقديم فهم دقيق لكيفية استمرار التراث والذاكرة والهوية في تشكيل طريق السودان إلى الأمام، والاحتفال بتنوعه ووحدته في مواجهة الشدائد.

إن توسيع مناقشتنا لتشمل تحليلاً اجتماعيًا وسياسيًا أوسع يكشف عن التأثير العميق الذي تحدثه أشكال التعبير الثقافي على المشهد الاجتماعي والسياسي في السودان بما في ذلك الامني والعسكري والاقتصادي، والعكس صحيح. الموسيقى والرقص في السودان ليست مجرد بقايا من الماضي أو مجرد ترفيه؛ إنها انعكاسات نابضة بالحياة لنضالات الأمة وتطلعاتها المستمرة. تعمل هذه الأشكال الفنية كمقياس للتغيرات المجتمعية، مما يعكس استجابة السكان للاضطرابات السياسية والتحديات الاقتصادية والتحولات الاجتماعية. على سبيل المثال، غالبًا ما تحمل كلمات الأغاني والحركات في الرقصات رسائل مشفرة للمقاومة أو الوحدة أو النقد ضد هياكل السلطة السائدة، وبالتالي تصبح شكلاً خفيًا وقويًا من أشكال التعبير السياسي. علاوة على ذلك، بينما يبحر السودان في رحلته المعقدة نحو السلام والديمقراطية، تلعب هذه الممارسات الثقافية دوراً حاسماً في تعزيز الشعور بالهوية الوطنية والتماسك بين مجموعاته العرقية المتنوعة. من خلال سد الانقسامات وتوفير منصة للحوار، تساهم الموسيقى والرقص بشكل كبير في عملية المصالحة، مما يؤكد دورها الذي لا غنى عنه في تشكيل مستقبل اجتماعي وسياسي متناغم وشامل للسودان. يسلط هذا التفاعل بين الثقافة والسياسة الضوء على الدور الذي لا غنى عنه للتراث والتعبير الفني ليس فقط في الحفاظ على ذاكرة وهوية الشعب السوداني ولكن أيضًا في تشكيل السرد الاجتماعي والسياسي للبلاد بشكل فعال.

وبينما نتنقل في الأفكار الختامية لهذا الاستكشاف، فمن الواضح أن السرد السوداني للحرب، الذي يُنظر إليه من خلال عدسات السخرية والواقعية، يقدم نظرة فريدة على مرونة الروح الإنسانية. لم تحافظ الموسيقى والرقص، بأشكالها الأكثر أصالة، على نسيج الثقافة السودانية الغني فحسب، رغم التباين في التعاطي مع مكونات المنتوج الثقافي للآخر، بل كانت بمثابة مرآة تعكس المشاعر والتجارب المعقدة لشعبها. وفي مواجهة الشدائد، تقف هذه التعبيرات الثقافية بمثابة أعمال متحدية للحفاظ على الذاكرة والهوية، مما يضمن استمرار صدى ثراء الهوية الجماعية للشعوب السودانية و إلهامها، وتردد صداها عبر العصور كمنارة للأمل والوحدة والسلام. من خلال فهم هذه الروايات والاعتزاز بها، يواصل شعب السودان نسج قصة نابضة بالحياة من الروعة المتاصلة في الروح السودانية، المتجذرة بعمق في الماضي ولكنها تتطور باستمرار، وترسم مستقبلًا يزدهر فيه التراث والهوية وسط التجارب.
اسماعيل هجانة
المستشار الاستراتيجي في الشؤون الإنسانية والتنموية
[email protected]

Comments (0)
Add Comment