العبقرية والشهرة بين الطيب والعقاد ومعاوية وبليك

في أوائل ثمانينيات القرن الماضي كتبت مقالا بدأته بطرح سؤال هل الشهرة ضرورية للعبقري؟ سؤال او فرضية بمصطلح الأكاديميات أسستُ عليها مقال تم نشره في مجلة الدوحة الثقافية الشهرية وكان مدخله المقارنة بين الاديب السوداني المغمور معاوية محمد نور والشاعر الإنجليزي المعروف وليم بليك الذي أجاب على السؤال بالنفي وذلك أن الشهرة غير ضرورية للعبقري .. وإجابة بليك تنبع من المجتمع والحياة التي عاشها في بيئة الانجليز، ولكن هل هذا ينطبق على معاوية في بيئة السودان حينذاك؟ وتلك قصة أخرى مفصلة في العدد ٨ الصادر في عام ١٩٨١ لمن أراد الاطلاع عليه ..

الشاهد ان ذلك المقال كان بداية معرفتي بالطيب الذي أشاد به لإلقاء الضوء على اسهامات ذلك الكاتب المتفرد الذي لا يكاد يعرف محليا وإقليميا ..

ثم عرفت الطيب بعدها كشخص عن قرب بعيدا عن وهج واضواء الشهرة وبريقها الذي قد يؤثر على الحقيقة الكاملة سلبا او إيجابا ..

في هذا الشهر من عام ٢٠٢٤ تكون قد مرت خمسة عشر عاما على رحيل الطيب صالح .. والكتابة عن الطيب في غاية الصعوبة خاصة لمن عرفه عن قرب بعيدا عن اضواء الشهرة وبريقها الذي تهتز في محيطها الصورة الحقيقية للإنسان .. ومما يجعل الامر أكثر صعوبة انه مهما كتبت اشعر بأنني مقصر وذلك لأنه إضافة الى ابداعه ككاتب يمتاز بجوانب اخرى قل ان يتصف بها انسان في مثل شهرته .. فالشهرة تجعل الناس يعرفون زيدا من الناس على الصورة التي فرضها الاعلام وبذلك تطغى على جوانب أخرى لا تقل اهمية .. ويروى عن الممثل الإنجليزي الأشهر كيري جرانت أنه قال: أنا نفسي أتمنى ان أكون مثل شخص كيري جرانت الذي يعرفه الناس على الشاشة ..ولكن في حالة الطيب انه كان أكبر مما عرف به من خلال اعماله ولم يكن يستغل الشهرة لفائدة او منفعة شخصية بل كان كريما يبذل المال كمن لا يخشى الفقر..

حسب مهنتي في أجهزة الاعلام التقيت بكثير من المشاهير ونجوم المجتمع وكنت ارصد سلوكياتهم وأثر الشهرة على تصرفاتهم وتعاملهم مع الناس .. فمثلا لاحظت بعضهم إذا قدمت له خدمة لا يظهر منه كثير شكر وامتنان متوقع في مثل هذه المواقف لأنه يعتقد أن ذلك من المفروض عليك فعله له كأحد النخبة وعلية القوم ويكفي انه سمح لك ان تكون قريبا منه .. هذا ما يقوم به المشاهير إلا من رحم ربي ..

تحضرني هنا قصة حدثت مع عباس العقاد وهو القائل عن الشهرة التي يدعوها بالشهرة العوراء قال:

دع الشهرة العوراء ترداد غافلا

على حكمها يجري وإن طاش أو ظُلم

إذا الدهر لم يحفظ لذي حق حقه

فللدهر مني موطئ النعل والقدم

إذا جاز بيع الذكر في شرع أمة

فلا كان من الذكر ولا كانت الأمم

يروى انه بينما كان العقاد منتظرا حتى يحين موعد لقاء معه في إذاعة القاهرة اقتحم عليه عزلته أحد الإعلاميين المشاهير إياهم وازعج هذا المفكر الضخم المشغول بقضايا الفكر الكبرى شغله بطرح توافه الأمور والاهتمامات الصغيرة وانجازاته والعقاد يستمع ولكن الإعلامي لم يكتف بذلك بل سأل العقاد قائلا:

ايه رأيك فيني واجابه العقاد بالمنطق الصارم وقوة الحق التي اشتهر بها بين المفكرين قائلا:

رأيي فيك أنك مقبل على الحياة بلا مبرر!

مرة كنا جلوسا الطيب وأنا في صالون شقتي في واشنطن وبالرغم من أنى اعرف انه لا يحب ان يُمدح قلت له أنت كاتب مشهور ولكن بأسلوبك في الحياة ورد فعلك على الشهرة جعلني اغير بشكل جوهري ما توصلت

إليه من نتائج عن النجومية والشهرة وأثرها على تصرفات الشخص المشهور !! فلم التق بشخص مشهور ثبت ولم تهز الشهرة شعرة من جسده مثلك ولم يستغل الشهرة لمنفعة شخصية .. وقال لي: يا راجل ! ولم يزد ولم أزد لأني أعرف أنه لا يحب هذا النوع من المدح ..

لذلك أنا كثير الشكر للدور الذي قام به الأخ طلحة جبريل وملاحقته للطيب وكانت نتيجته ذلك كتاب ” على الدرب مع الطيب صالح: ملامح من سيرة ذاتية ” حيث تم القاء الضوء على جوانب مهمة في حياة الطيب لأن الطيب كان من المستحيل ان يكتب عن نفسه فيما يعرف عند الفرنجة بـ “..”Autobiography

وتطرق الطيب في ذلك الكتاب للشهرة وتفاعلاتها مستخدما مصطلح مشحون بالمعاني وهو ما دعاه “توبيخ الشهرة” وهو وصف دقيق لتأثيراتها على حياة المشهور ومن حوله خاصة على انسان حساس ومتواضع مثله ..

رحم الله تعالى الطيب صالح فقد كان طيبا وصالحا تنطبق علية المقولة العربية المأثورة  “لكل امرئ من اسمه نصيب” …

د. الفاتح اراهيم

العاصمة الامريكية واشنطن

Comments (0)
Add Comment