أوراق برس
كل ما يهمك

- الإعلانات -

- الإعلانات -

من المايقوما محطة ١٢ إلى مقابر مروي بخيتة حمد النيل.. تفاصيل الرحيل المؤلمة.. كتب: هاشم عوض

- الإعلانات -

 

اعتاد الناس، هنا في شرق النيل وغيرها، من مناطق الحرب، على الخروج صباح كل يوم لقضاء احتياجات أسرهم. يخرجون رغم ما ينطوي عليه الخروج من مخاطر. وما جدوى البقاء في البيوت، إن كنت لا تأمن سقوط طلقة أو دانة. طالما هناك حرب، يمكنك توقع كل شئ. وما أكثر مَن لقوا حتفهم وهم داخل بيوتهم. نهاية الأمر هي إرادة الله النافذة في عباده. تتعدد الأسباب والموت واحد.

قبل الخروج من بيتك، يجب أن تستطلع الأوضاع، وهي من التكتيكات التي اكتسبها الناس خلال هذه الحرب. مثلا وأنت تسير في الشارع، عندما تسمع فجأة صوت إطلاق رصاص، عليك فورا استخدام الساتر، وهو يعني بلغة العساكر، أن تنبطح أرضا. وما أكثر ما استخدمناه. ويبقى الساتر هو الله وحده.

- الإعلانات -

مضى الناس إلى أبعد من ذلك، فهم باتوا يميزون بين أنواع الأسلحة، من خلال صوتها. دا صوت طبنجة. دا صوت كلاش. دي الدُنان، ويعنون بها طائرة الاستطلاع. دي انتنوف وغيرها. وأخيرا تحولوا إلى خبراء عسكريين، يقدمون الوصفات العسكرية، وإلى محللين استراتيجيين يبدون آراءهم في كل شئ. ففي ذلك كله خير، رغم عدم جدواه وتأثيره، إلا أن الأمر برمته، يظل تسلية و تزجية للوقت في زمن الحرب.

مع اشتداد وتيرة المعارك، تدهورت الأوضاع هنا في شرق النيل، وساءت الأمور. لا كهرباء ولا ماء ولا اتصالات. عشنا أوضاعا لا تُوصف. الأمر الذي جعل الكثير من الأسر تغادر. كنت كثيرا ما أسأل بخيتة، حينما أقابلها: (إنتو طالعين متين، الناس دي كلها طلعت قاعدين مالكم؟). وكان يأتيني ردها: (ما عندنا طريقة طلعة يا هاشم نمشي وين حا نقعد هنا رغم الحاصل).

خرجت بخيتة محمد حمد النيل من بيتها، برفقة زوجها أمين طيفور، صباح يوم الحادث الأليم، الذي وافق السادس والعشرين من شهر فبراير الماضي، متجهين إلى محطة ١٢ لقضاء حوائجهم. المحطة تعتبر سوقا مصغرا لأهالي المايقوما. ومع هذه الحرب وإفرازاتها السالبة، تمددت وصارت سوقا لكل شئ. شهدت العديد من الاشتباكات والاحتكاكات والسرقات. وفقد الكثيرون هنا أرواحهم. ولم تعد إلى وضعها السابق، إلا بعد دخول الجيش بحمد الله.

وبعد فراغهما من شراء احتياجاتهما، قررا العودة إلى البيت. سارا خطوات قليلة. تذكرت بخيتة شيئا، ورجعت لوحدها مرة أخرى إلى المحطة. ولم تمض دقائق حتى سمع أمين صوت شخص، يخبره أن بخيتة أُصيبت هناك بطلقة طائشة. ذهب إلى المكان الذي يبعد عنه خطوات. تجمهر حشد من الناس حولها، وهي على الأرض. وتشاء الصدفة أن تمر ركشة بها أفراد من الجيش، الذي كان وقتها مرتكزا بناحية المزدلفة، وفي حالة تمشيط مستمرة لشرق النيل. وبعد استفسارهم عن الحاصل. توجهوا بها إلى مركز لوزان الطبي. وبعد معاينتها نصحهم الطبيب بضرورة تحويلها إلى مركز الشهيد علي عبد الفتاح بالدروشاب. واجهتهم مشكلة المواصلات. الأمر الذي جعل زوجها يتفق مع عربة كارو، تقلهم إلى محطة ٢٤، ومنها إلى المستشفى. ولصعوبة التحرك وخطورته، توجهوا إلى ارتكاز الجيش بمنطقة مزدلفة. ومن هناك، تحركت بهم عربة تاتشر ومعهم عدد من الجرحى إلى مستشفى على عبد الفتاح. وبعد أخذ صور أشعة، تأكد وجود طلقة، اخترقت الكتف من ناحية اليمين، واستقرت داخل جسمها. ويبدو أنها أثرت على أداء الرئة اليمنى. مكثوا ليلتهم تلك بالمستشفى. وعند الثالثة صباحا. جُهز لهم إسعاف، وتم تحويلهم إلى مستشفى النو بأم درمان. وهناك أخبروهم بضرورة التدخل الجراحي وإجراء عملية، لا تتوفر إمكانية إجرائها بالمستشفى حاليا، لعدم وجود اختصاصي. جهزوا عربة إسعاف، ورافقتهم طبيبة الى مستشفى الضمان بمروي. وهناك بدات رحلة العلاج والتحضير للعملية، والتي تأخر إجراؤها بسبب نقص الأوكسجين. وبعد ضبطه أُجريت العملية وأُخرجت الطلقة. ولكنها لم تعد قادرة على الحركة. أكد لهم الدكتور أن إمكانية الحركة ضعيفة جدا، على الأقل في الوقت الحالي. ظلت بالمستشفى قرابة خمسة وعشرين يوما. استأجرت أسرتها بيتا بالقرب من المستشفى لتسهيل التواصل والمتابعة.

أسرتها كانت منزعجة من ذهابهم إلى مروي، ومصدر انزعاجهم، هو أنهم لا يعرفون أحدا بالشمالية. أكدت لشقيقتها أن الشمالية كلها بالنسبة لهم أهل. اتصلنا بوالدتنا، وهي صديقة حميمة للفقيدة، بجانب أنها جارة لها، يفصلنا شارع واحد فقط هنا في المايقوما. ظلت الوالدة ملازمة لها، وكنا نتابع عبرها تطورات الموقف الصحي للفقيدة. للحقيقة لم تكن الوالدة وحدها، فهناك الكثيرون من جيرانها هنا في المايقوما، الذين ذهبوا إلى ذويهم في الشمالية بسبب الحرب، شكلوا حضورا دائما، كعادة أهل السودان دوما في الملمات.

- الإعلانات -

صباح السبت الفائت، وجدت رسالة من ابني محمد: (يا ابوي بخيتة ماتت. أمين زوجها اتصل على عمي عبيدة قبل شوية). خبر يجعلك تفقد التركيز لحظات، وتدور في ذهنك العديد من الأسئلة: (مش قالوا بقت كويسة…)، ولكنها لن تفيد، فقد انقضى الأمر. ظللت في حيرة من أمري، كيف سأواجه أهلها بهذا الخبر الفاجع؟. فإذا بي أسمع بكاءً وعويلاً. إذن بلغهم الخبر. وعلى إثره تقاطرت الجموع صوب منزل الفقيدة، لتقديم واجب العزاء.

ونحن جلوس في بيت العزاء، اتصلنا بزوجها أمين -وبحمد الله كان متماسكا وصابرا- وعلمت منه أنهم كانوا يتأهبون قبل لحظات من موتها لمقابلة الدكتور. فجأة شعرت بضيق نفس. لقنها أمين الشهادة ورددتها معه بصعوبة. أحضروا عربة وتوجهوا بها إلى المستشفى، التي لا تبعد عنهم كثيرا. وهناك أكد لهم الطبيب بأنها توفيت قبل دقائق.

ذهبت الفقيدة بخيتة إلى مروي، لأول مرة في حياتها، ودُفنت بمقابرها، بعيدا عن أهلها في الجزيرة، وعن أسرتها في المايقوما. هبت جموع غفيرة -كعادة أهلنا هناك- لمواراتها الثرى. زوجها أمين كان مستغربا لذلك، فمعظم من جاءوا هنا لا يعرفهم. قال لي: لم نشعر قط بأننا بعيدون عن أهلنا وذوينا.

شقّ عليّ عزاء شقيقتيها أسمهان وجهاد. وكنت على يقين، أنني لن أصمد عندما أدخل إلى بيتهم، وقد كان. نعم بكيناك يا بخيتة بدمع سخين. ما خفف عنا بعض الألم، ثبات ابنتيها وصبرهما. لم أقابل صغيرها عمر، الذي كانت تكن له محبة خاصة. التقيته عقب صلاة المغرب بمسجد عرفات. حضنته وأنا أغالب الدموع، يا عمر شد حيلك واصبر. أدهشني عندما قال لي بثبات وصبر: الفاتحة.

الفقيدة بخيتة، رحلت عنا برصاصة طائشة، لا نعرف مَن أطلقها؟ وقطعا لن نعرف. إن ضاعت هنا، فعند الله تجتمع الخصوم. تركت لنا سيرة عطرة، ستظل على ألسنة كل من يعرفون فضائلها، التي لا تُحصى. فهي ظلت على تواصل دائم مع جيرانها في أفراحهم وأتراحهم. برحيلها فقدها طلابها بمدرسة حمدان. وفقدتها والدتها التي أقعدها المرض، فهي لا تدرك رحيل ابنتها. فقدتها المايقوما جميعها. وفقدها أولادها الأربعة، وهم كانوا في أمس الحاجة لها. ولا نعتقد أن والدهم أمين في حاجة إلى وصية.

وداعاً بخيتة. سيظل مكان سقوطك بمحطة ١٢ معلماً، يحرك فينا كوامن الحزن الدفين، ويخلد ذكرى حرب لن ننساها مهما تداولت السنين. لك واسع الرحمة والمغفرة.

ود عوض

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

Leave A Reply

Your email address will not be published.